رسائل حب شرقية |
رسالتان من الرافعي
1- نظراتها
أكتب إليك يا حبيبتي كتاب عيني , إذ أكتب عن نظرتك السحرية التي أجد لها في قلبي
معرض فن كامل من صور المعاني الجميلة . فإن نظرة الحب تقع موقعها في العين وحقيقة
معناها في القلب , كأختها قبلة الحب : هي في الفم وحلاوة طعمها في الفكر .
أتدرين يا حبيبتي كيف أراك ؟ .. إن في عيني من أثر حبك ما جعل في نظري قوة خلق
معنوي تريني كل شيء من فوق معانيه , كأني خلقت فيه جمالا أو معنى , أو خلقت فيه
القدرة على أن يسمو في روحي ويرتفع بها فوق ما هو في نفسه وحقيقته , وعلى الجملة
فكأني أسبغ الفن على المادة , فإذا كل شيء يُرى هو في نفسي شيء ألبس مجازا أو
استعارة أو نحوهما مما يحقق فيه مع صنع مادته عمل فكري وخيالي .
في نظري من أثر حبك حس من الفكرة , فهو نظر وتقدير معا والأشياء لديه مادة وعبارة
سواء , والإدراك به حقيقة وخيال جميعا , وبكل ذلك فالجمال في نظري جمال من ناحيتين
: حسنه في ذاته , وحسنه في خيالي الذي يجعله أسمى من ذاته ...
كذلك أراك بحس الشاعر الذي يضيف دائما إلى الحياة والطبيعة زوائده وفنونه , ولكني
أراك أيضا بحس الطفولة التي تضيف إليها الحياة والطبيعة دائما مثل تلك الزوائد
والفنون , فما أحسبني رأيتك مرة إلا وكأني رأيت فيك أول أنثى , وكأنما الحب هو بدء
الدنيا مرة ثانية من أولها ...
***
وانظري الآن يا حبيبتي صور نظراتك في قلبي , فإن لها بعثات من ورائها بعثات , وفيها
المعاني من تحت المعاني .
فهذه نظرات تمتد تأمر تشعرني قوة سطوتها كأنها تقول : أريد .. أريد .. ثم لا يرضيها
الرضا فكأنها تقول : أريد منك أكثر مما أريد .. !
ونظرات تجيء تشعر النفس قوة سحرها , فلا تتفتر بها عيناك حتى أرى الحياة وقد ملأت
وجهك بفن من الأنوثة الساحرة كأنما أبدعته لك خاصة .
ونظرات من عين ساجية ساكنة الطرف كأنها تقول لي : إن نظراتي إليك بعض أفكاري فيك !
ونظرات يتقطع الطرف بيني وبينك فيها كأنها تقول لي أفهمت ؟!
ونظرة طويلة صارمة لها سيماء قاض محقق تبحث فيّ عن توكيد لتهمة أو براءة !
ونظرات من عين تسأل متجاهلة وقد شطرت بصرها كأن فيها فكرين أحدهما يقول أعرفك
والآخر يقول لا أعرفك !
ونظرات الحبيبة لألأت بعينيها كأنها تقول لقلبي : أنت جريء كالفراشة ولكن على
الشعلة المحرقة .. !
ونظرات الجميلة المزهوة كأن فيها شيئا أعلى من أرواحنا يوضح لمحات من الجمال الأزلي
.
ونظرات الضاحكة اللعوب تنفر وتتدلل كأنها تقول لي إنها تحس بأفكاري تداعبها وتلمسها
!
ونظرات الخفرة الحيية التي كأنما تحاول أن تخفي سر قلبين تحت كسرة طرف ضعيفة ...
***
تلك يا حبيبتي صور نظراتك في معرض قلبي , وتقابلها هناك الصور الأخرى التي لا
تريدين أن أصفها لك , لأنها الصور المسكينة : صور أحلامي .. !
مصطفى صادق الرافعي
2- الأشواق
هاأنذا يا حبيبتي أجلس لكتاب الشوق , وفي يدي القلم , ومعانيك مني قريبة تكاد تحس
وتلمس على تباعد ما بيننا , لأن كل ما فيك هو في قلبي .
وهذه عينك الطاهرة دائما بمظهر استفهام عن شيء , لأن وراءها نفسا متعنتة تأبى أن
ترضى , أو حائرة لا تكفيها معرفة , أو غامضة تريد أن لا تفسر , أو على الحقيقة لأن
وراءها نفسا فيها التعنت والحيرة والغموض , إذ عرفت أنها معشوقة ...
وآه من تباريح الحب ! إنها لوحوش من الأحزان ثائرة , فكل راجفة من رواجف الصدر
كأنها من حر الشوق ضربة مخلب على القلب .
الشوق ؟ ما الشوق إلا صاعقة تنشئها كهرباء الحب في سحاب الدم يمور ويضطرب ويصدم
بعضه بعضا من الغليان , فيرجف فيه حين الرعد القلبي يتردد صوته آه آه آه ..!
***
والآن يا حبيبتي ألقت عينك الساحرة عليَّ نظرة استفهام أخرى بالصبابة ورقة الشوق ,
فأحسست بروحي كالغصن المخضر أثقله الزهر وقد طفقت أزهاره تتفتح وتسلم النسيم ودائع
الجنة من نفحاتها وتسليماتها عليك ...
***
وبنظرة استفهام أخرى من عينك اشعر بحقيقتك النسوية من حولي حافة بي , فمرتجفة في
صدري , فملقية على قلبي المسكين من كل خطرة شوق لسعة ألم ...
***
أنت ممزوجة بآلامي , وآلامي منك هي أشواقي , وأشواقي إليك هي أفكاري , وأفكاري فيك
هي معانيك في نفسي , ومعانيك هي الحب , ولكن ما هو الحب إلا أن يكون آلامي وأشواقي
وأفكاري ومعانيك في نفسي ؟ ...
***
في بعدك لا أشعر بالزمن يفنى من الساعات والأيام , بل مني ومن حياتي , فأنا في بعدك
أذوب , وأذوب فناء , أي أذوب شوقا , وأفنى صبرا وعمرا بين كل ساعة وساعة ! ...
يا رحمة للمشتاق حين يكون فيما حوله وهو بعيد عنه , وقد يتكلم بالكلمة وهو مسيرة
شهر من معناها , ويعيش في سكوت ملأته أرواح ألفاظ محبوبة تريد بما وسعه أن تتكلم
ولا يمكن أ ن تتكلم , إذ الفم الجميل الذي ينطقها بعيد في وديعة النوى , ويرى أنه
هو وحبيبه ناحية فكرية من نواحي الدنيا بعيدة عن الناس والأشياء , كأنهما معتكفان
في عزلة .. ومع ذلك فالحبيب عنه بعيد , فكأنما المسكين غريب في دنياه وفكره معا ,
ويحس الآلام لا تنتهي , إذ كانت هي أشواقه الدائمة الحنين إلى من يهواه , فالألم
دائما فيه يبدأ ولا يزال يبدأ !
ومن كل ذلك فأشواقي لك يا حبيبي دائما تبدأ ولا تزال تبدأ , وأنا دائما في أولها .
***
آه ما هذه الأفكار الحزينة التي جاءت تبحث عن دموعي .
وما هذا المعنى الناري الذي يطير في دمي .
وما هذا الرعد القلبي الراجف يتردد صوته : آه آه آه ..؟
مصطفى صادق الرافعي